تتمثل العملية الانتخابية في مجموعة من القواعد والإجراءات التي تؤدي إلى اختيار المواطنين لحكامهم، وذلك ضمن ما يسمى بالقانون الانتخابي. يعرف أستاذ القانون الدستوري محمد رضا ابن حمّاد في كتابه “القانون الدستوري والأنظمة السياسية” القانون الانتخابي على أنه: “مجموعة القواعد التي تعرّف صفة الناخب وتبيّن مختلف نظم الاقتراع وتنظيم عملية التصويت”.وفي تونس، تم تحديد نظام الاقتراع في الانتخابات الرئاسية بحيث يعتمد على الانتخاب بالأغلبية في دورتين. أي إذا لم يحصل أي مترشح على عدد أصوات يفوق 50% زائد واحد من مجموع المقترعين في الدورة الأولى، يتم المرور إلى الدورة الثانية. وقد تصاعد الجدل مؤخراً، خاصة بعد تصريح الناطق الرسمي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، محمد التليلي المنصري، يوم 29 ماي 2024 عبر إذاعة ديوان أف أم، حول موعد إجراء هذه الانتخابات وشروط الترشح، لا سيما الشروط الجديدة الواردة في دستور 25 جويلية 2022 وكيفية إدراجها في القانون الانتخابي
هل تحدد دعوة الناخبين الرزنامة الانتخابية أم العكس؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أولاً توضيح دور الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. الهيئة تتولى الإشراف وإدارة الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية والاستفتاءات في جميع مراحلها. في عام 2016، أُسندت إليها مهمة تنظيم وإدارة انتخابات المجلس الأعلى للقضاء. الهيئة تضمن نزاهة وشفافية العملية الانتخابية وتتمتع بسلطة تنظيمية في مجال اختصاصها. وفقًا لمقتضيات الفصل 3 من القانون الأساسي المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات، تتولى الهيئة “وضع روزنامة الانتخابات والاستفتاءات وإشهارها وتنفيذها بما يتفق مع المدد المقررة بالدستور والقانون الانتخابي”. القاضي الإداري السابق والمحامي المتخصص في النزاعات الانتخابية، أحمد صواب، أكد أن تحديد الرزنامة وتحديد تاريخ الانتخابات يسبق دعوة الناخبين. هذا يتماشى مع القانون والعرف الانتخابي في تونس بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011. على سبيل المثال، في الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2019، حددت الهيئة رزنامة الانتخابات أولاً، وبعدها تمت دعوة الناخبين للمواعيد المحددة بأمر رئاسي. نص الأمر على أنه استند إلى قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عدد 5 لسنة 2019 المؤرخ في 14 مارس 2019 المتعلق بروزنامة الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، مع تعديلات لاحقة بالقرارات عدد 10 لسنة 2019 المؤرخ في 3 أفريل 2019 وعدد 14 لسنة 2019 المؤرخ في 31 ماي 2019. بناءً على ذلك، فإن تحديد رزنامة الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 يجب أن يسبق دعوة الناخبين للإدلاء بأصواتهم وفق الإجراءات المحددة في القانون الانتخابي.
وضع القانون الانتخابي وتنقيحه
ينص الفصل 75 من دستور 25 جويلية 2022 على أن القانون الانتخابي يتخذ شكل “القوانين الأساسية”، أي أن عملية إعداده تخضع لإجراءات خاصة نص عليها الفصل 79 من الدستور، والتي تتطلب مصادقة “الأغلبية المطلقة” من أعضاء مجلس نواب الشعب.
ينص الفصل 75 من دستور 25 جويلية 2022 على أن القانون الانتخابي يُعتبر من القوانين الأساسية، ويخضع لوضعه إجراءات خاصة مذكورة في الفصل 79 من الدستور، التي تتطلب مصادقة “الأغلبية المطلقة” من أعضاء مجلس نواب الشعب. تتماشى هذه الخصوصية مع المكانة الهامة للقوانين الأساسية ضمن الهرم القانوني، حيث يكون الدستور في القمة، يليه المعاهدات الدولية، ثم القوانين الأساسية، ثم القوانين العادية، وأخيراً المراسيم والأوامر والقرارات الترتيبية. يتطلب هذا الترتيب احترام القواعد الأدنى مرتبة للقوانين التي تعلوها.
القوانين الأساسية تقع في منتصف الهرم، أي أنها أدنى من الدستور والمعاهدات الدولية وأعلى من بقية القوانين، نظراً للمجالات الهامة التي تنظمها والتي حددها الفصل 75. يتم وضع هذه القوانين عبر مجلس نيابي منتخب مباشرة من الشعب ليعبر عن إرادته العامة. أشار القاضي الإداري السابق والمحامي المختص في النزاعات الانتخابية أحمد صواب إلى أن تعديل هذه القوانين يتطلب نفس الإجراءات المستخدمة في وضعها، بما في ذلك الأغلبيّة المطلوبة والجهة المخولة، تماشياً مع مبدأ توازي الصيغ والشكليات في عملية تعديل أو إلغاء القوانين.
أكد الناطق الرسمي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التليلي المنصري، في تصريح لإذاعة موزاييك فم في 29 مارس 2024، أن سنّ القوانين ليس من صلاحيّات الهيئة، وأن ذلك من اختصاص لجنة التشريع العام ولجنة القوانين الانتخابية والمصالح العامة للشؤون القانونية ومصالح التشريع برئاسة الحكومة. ومع ذلك، في تصريح لاحق لإذاعة ديوان فم في 29 ماي 2024، أشار المنصري إلى أن مجلس الهيئة سيصادق على قرار يتعلق بالشروط الواردة في الفصل 89 من دستور 2022 وإدراجها في القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء عبر قرار ترتيبي.
لا يمكن تعديل القانون الانتخابي بقرار ترتيبي أدنى منه مرتبة. يرى أحمد صواب أن إضافة شروط جديدة عبر قرار يعدّ تعديلاً للقانون، مما يجعله عرضة للإلغاء من قبل المحكمة الإدارية. أكدت المحكمة الإدارية في قرارها عدد 20190004 الصادر في 29 جوان 2019 أن القاضي الإداري يراقب شرعية القرار ومدى احترامه للنص التشريعي المستند عليه دون النظر في مدى مطابقة القرار لأحكام الدستور. لذا، تقتصر صلاحيات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على إصدار قرارات إجرائية تقنية نابعة من النص القانوني دون الخروج عنه.
أضاف أحمد صواب أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تُعدّ هيئة غير دستورية حالياً، وفقاً للفصل 134 من الدستور الذي ينص على أن الهيئة تتألف من 9 أعضاء، في حين أنها تضم حالياً 7 أعضاء فقط. حتى مع اكتمال نصابها الدستوري، فإن ذلك لا يخوّل لها إضافة شروط جديدة للترشح للانتخابات.
“إضافة شروط جديدة على القانون الانتخابي بمقتضى قرار هو تنقيح له، وهو ما يجعله عرضة للإلغاء من قبل المحكمة الإداريّة”
القاضي الإداري السابق والمحامي المختص في النزاعات الانتخابية أحمد صواب
الشروط الجديدة للترشح للانتخابات الرئاسيّة
جاء الفصل 89 من دستور 25 جويلية 2022 بثلاث شروط جديدة:
أولاً، يجب أن يكون المترشح قد بلغ من العمر 40 سنة، مما يعني رفع الحد الأدنى للسن المنصوص عليه في القانون الانتخابي الحالي (الفصل 40 الفقرة الثانية).
ثانيًا، يجب أن يكون المترشح “غير حامل لجنسيّة أخرى ومولود لأب وأم وجد لأب وأم تونسيين وكلّهم تونسيون دون انقطاع”. هذا الشرط يستثني شريحة كبيرة من التونسيين، خصوصاً المقيمين بالخارج الذين حصلوا على جنسيات أخرى. أحمد صواب أوضح أن هذا الشرط يحرم هؤلاء التونسيين من حقهم في الترشح، خلافاً لما ينص عليه القانون الانتخابي الحالي الذي يسمح لمن يحمل جنسية تونسية منذ الولادة وجنسية أخرى بالترشح بشرط التعهد بالتخلي عن الجنسية الأجنبية عند الفوز بالمنصب.
أما الشرط الثالث، فهو المتعلق بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. أحمد صواب أشار إلى أن اشتراط البطاقة عدد 3 كإثبات لهذا الشرط يجافي المنطق وفقه القضاء، إذ أن الحصول على البطاقة يعتمد على سلطة وزارة الداخلية وليس على إرادة المترشح نفسه. المحكمة الإدارية في قرارها بتاريخ 9 سبتمبر 2014 أكدت أن إلزام المترشح بإرفاق مطلب ترشحه بالبطاقة قد يجعله في وضعية حرجة أو مستحيلة. كما أضاف صواب أن حتى إذا تم تمكين المترشح من البطاقة وثبت أن لديه سوابق عدلية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة حرمانه من حقوقه المدنية والسياسية، إذ أن ذلك يتم فقط عبر عقوبة تكميليّة يقررها القاضي الجزائي.
هذه الشروط الجديدة تثير تساؤلات حول نزاهة المسار الانتخابي والعملية الديمقراطية ككل، خصوصاً أن موعد الانتخابات لم يُعلن بعد رغم اقتراب الأجل المنصوص عليه في الفصل 90 من دستور 25 جويلية 2022، الذي ينص على وجوب إجراء الانتخابات في الثلاثة أشهر الأخيرة من المدة الرئاسية، أي بحلول 23 أكتوبر 2024.
في الختام، يجب التأكيد على أن نزاهة العملية الانتخابية لا تتعلق فقط بيوم الاقتراع، بل هي مسار شامل يتضمن سلسلة من المراحل التي يجب أن تلتزم بالدستور والمعايير الدولية والقانون. تبدأ هذه المراحل من إعداد القوانين واللوائح الانتخابية، مروراً بالتسجيل والترشح، وصولاً إلى الحملات الانتخابية والتصويت، وتنتهي بفرز الأصوات وإعلان النتائج.
من غير المقبول تغيير قواعد اللعبة أثناء سيرها، أي أنه لا يجوز تعديل القانون الانتخابي في السنة التي ستجرى فيها الانتخابات. هذه الممارسات تتعارض مع مبادئ الديمقراطية والعدالة، وتثير الشكوك حول شفافية العملية الانتخابية بأكملها. وفقًا للمعايير الدولية، مثل تلك التي وضعتها المفوضية الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون (لجنة البندقية)، ينبغي أن تكون القوانين الانتخابية مستقرة وثابتة، وتغييراتها يجب أن تتم قبل فترة كافية من موعد الانتخابات لضمان الشفافية والعدالة.
هذا المبدأ يحمي العملية الديمقراطية من التلاعب السياسي ويعزز ثقة المواطنين في النظام الانتخابي. التغيير المستمر أو المتأخر للقوانين الانتخابية قد يُفسَّر كمحاولة للسيطرة على نتائج الانتخابات، وهو ما يقوّض الثقة في المؤسسات الديمقراطية ويؤثر سلباً على مشاركة المواطنين.