خلف الكواليس: التطبيع التونسي-الإسرائيلي تحت ستار الأمن القومي


ماذا لو تمكن شخص ما من إقناعك بأن السماء خضراء؟ أو انه يقود حربا ضروسا من اجلك؟ هل يمكن أن تتحول الكذبة إلى حقيقة بمجرد تكرارها؟ قد يبدو السؤال سخيفًا، ولكنه جوهر النظرية النفسية “أثر وهم الحقيقة”. قوام هذه النظرية مقولة “داوم على تكرار الكذبة حتى تضرب جذورها عميقاً في عقل الجمهور كحقيقة لا مجال للشك فيها” ونسبت لمؤسس قانون البروباغاندا جوزيف جوبلز، وزير الدعاية النازي. 

كم مرة كرر قيس سعيد المرشح للانتخابات الرئاسية 2019، أن التطبيع خيانة عظمى، وان من يتعامل مع كيان غاصب يجب أن يحاكم بتهمة الخيانة العظمى؟ 

لم يكن شعار “التطبيع خيانة عظمى” مجرد عبارة انتخابية عابرة، بل أصبح بمثابة عقد اجتماعي بين المرشح قيس سعيد والشعب التونسي. هذا الشعار عكس تطلعات وآمال الجماهير في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عن القضية الفلسطينية. وقد ساهم بشكل كبير في فتح قلوب التونسيين له كما عبد طريقه نحو قصر قرطاج. بفضل هذا الشعار، استطاع قيس سعيد جذب تأييد واسع من الشارع التونسي، مما جعله المرشح الأكثر حظًا للفوز بالانتخابات الرئاسية حينها.

وقد واصل في نفس النهج لمدة سنوات وخاصة في تعليقه على بعض الأحداث في فلسطين المحتلة كما برر رفضنا في بعض الأحيان في الجلسة العامة للأمم المتحدة اللوائح لتحفظها على ماورد فيها من إشارات إلى حدود الرابع من جوان 1967 وحل الدولتين، فتونس لا تعترف إلا بفلسطين وكل فلسطين. كما واصل التونسيين تصديقه لهذه الخطابات الرنانة والمواقف الثورية. إلى ان أتاهم حديث بودربالة، يوم انعقاد الجلسة العامة للمجلس التشريعي في 2 نوفمبر 2023 للمصادقة على قانون يجرم التطبيع مع الكيان. مقترح قانون يتماشى مع خطاب صاحب شعار “التطبيع خيانة عظمى” ووعوده الانتخابية. 

إذ صرح رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة على لسان رئيس الجمهورية مستشهدا بالنائب سوسن المبروك، التي أثبتنا صلتها بضابط اسرائيلي سابق في تحقيق “مملكة أطلنتيس الوهمية :مافيا للتحيل ووكر للتطبيع”، ان رئيس الجمهورية “اكد بالحرف الواحد ان مقترح هذا القانون سوف يضر بالمصالح الخارجية لتونس، وان الأمر يتعلق بالاعتداء على امن الدولة الخارجي وهي أمور تتعلق بالأمن القومي”,ليكتشف الجميع يومها أنه مجرد شعار انتخابي لتنويم الجماهير كما جاء على لسانه ان “المسالة اتخذت طابعا انتخابيا لا اكثر ولا اقل”. وتأكد ذلك بمرور الأشهر إذ ان رئيس التونسيين لم يكلف نفسه مجرد النعي وتقديم التعازي في اغتيال القائد السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، إسماعيل هنية، الذي أغتيل في ايران بتاريخ 31 جويلية 2023.

في حين هرول لتقديم التعازي شخصيا في مقتل رئيس ايران. وأصبح مفضوحا للجميع عدم اكتراثه للقضية وما يحدث في الأراضي المحتلة ولا في حاملي قضيتها. إذ إلى حدود كتابة هذا التقرير، لم يشجب الاعتداء السافر على سيادة لبنان من قوات الاحتلال الاسرائيلي ولا على اغتيالهم لزعيم المقاومة اللبنانية والعضد الأول للمقاومة الفلسطينية، السيد حسن نصر الله. في حين انه من ثوابت الديبلوماسية التونسية عبر التاريخ دعم كل الأشقاء وشجب كل اعتداء على أراضيهم والاغتيالات التي تضرب زعامات المقاومة الفلسطينية مهما كانت مرجعيتها.لماذا يرفض صاحب شعار “التطبيع خيانة عظمى” هذا القانون بالرغم أنه يتماشى مع تصريحاته المناهضة للتطبيع؟ ولماذا خفت صوته في حين علت أصوات المدافع والقنابل على رؤوس وأراضي اشقائنا في فلسطين ولبنان؟ لنتذكر تصريح السفير الأمريكي لجريدة الشارع المغاربي في 27 أوت الفارط في إجابته على ما إذا تدخلت وزارة الخارجية الأمريكية لمنع تمرير قانون تجريم التطبيع بالمجلس التشريعي فرد انه “يتم التطرق خلف الأبواب المغلقة الى كل المواضيع ويتحدث الدبلوماسيون من الجانبين في كل المواضيع ولكن في الفضاء العام لا نتحدث عن التفاصيل حول ما تم الحديث عنه لان هذا غير مناسب للعلاقات التاريخية او لهذه الشراكة التاريخية.”

تسريب بيانات شركة الاستخبارات الرقمية الاسرائيلية Cellebrite 

في 13 جانفي 2023، أعلنت مجموعة انلايس هاكتيفيست Enlace Hacktivist عن تسريب ضخم لبيانات شركة سييليبرايت الاسرائيلية، المتخصصة في تطوير برمجيات تخترق الهواتف المحمولة والعديد من الأجهزة الإلكترونية الآخرى، وصنفت الشركة أنها تساعد مؤسسات إنفاذ القانون على جمع الأدلة الرقمية في القضايا الجنائية. حملنا الفضول في فريق منصة فالصو إلى البحث والتعمق في حرفاء وعملاء الشركة الاسرائليه سيليبرايت من مؤسسات وشركات ودول، لنكتشف أنها لا تتعامل إلا مع الدول ومؤسسات إنفاذ القانون الرسمية، حسب رئيس مجلس ادارتها الاسرائيلي يوسي كرميل. واصلنا بحثنا لنصل إلى ملف يحوي بيانات مشفرة باسم CellebriteTunisia، وباعتبار مثل هذه التسريبات تباع وتشترى في مواقع الإنترنت المظلم اضطررنا لاقتناء الملف بقيمة 30$، لنقف على حجم الكذبة الكبرى لصاحب شعار “التطبيع خيانة عظمى” ولنجد دولتنا الموقرة مقتنية لاحد اكثر البرمجيات شعبية التي تقدمها الشركة الاسرائيلية: UFED Universal Forensic Extraction Tool اداة استخراج الأدلة الجنائي الذي تستخدمه وكالات إنفاذ القانون والاستخبارات لفتح البيانات والوصول اليها على الأجهزة المحمولة، كالهواتف الذكية

أسلحة تكنولوجية والمختبر فلسطين

في كتاب “المختبر الفلسطيني: كيف تصدر اسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم”، يقول الكاتب والمحلل السياسي الاسترالي انتوني لوينشتاين ان اسرائيل طورت مجموعة من الأدوات والتقنيات المتطورة المجربة مسبقا على الفلسطينيين للحفاظ على الاحتلال عبر “جدران ذكية”. فعلى سبيل المثال طورت اسرائيل تكنولوجيا مراقبة وقع تجربتها على الاسرى الفلسطينيين وهي برنامج التجسس المعروف بيغاسوس pegasus قبل تصديرها لأنحاء العالم. كما كانت اسرائيل مصدرا للأسلحة إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى حين انهياره سنة 1994. كما يذكر لوينشتاين في جزء مهم من كتابه كيفية بيع تكنولوجيا التجسس والمراقبة العسكرية الشاملة التي تستخدم ضد الفلسطينيين إلى جميع أنحاء العالم، على غرار برنامج شركة سيليبرايت Cellebrite المستخدم على نطاق واسع لاستهداف المعارضين السياسيين والنشطاء والإعلاميين، والتي تقع تحت رقابة وزارة الأمن الاسرائيلي. وتدعي شركة Cellebrite، التي يرأسها إسرائيلي يدعى يوسي كرميل، أن معداتها تباع لأجهزة شرطة وقوات الأمن فقط من أجل محاربة الجرائم الخطيرة والإرهاب. إلا أن برمجيات التجسس التي طورتها موجودة منذ سنوات طويلة لدى أجهزة تقمع ناشطي حقوق الإنسان وأقليات عرقية وجنسية. ومن بين عملاء الشركة أنظمة قمعية مثل مصر وبيلاروسيا والصين وهونغ كونغ وأوغندا والفليبين وروسيا وإثيوبيا ووحدة الاغتيالات RAB في بنغلاديش. أنظمة تشتهر بانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي وحق الاختلاف والتنظم السياسي والجمعياتي. وتفرض قيودا مشددة عبر قوانين وممارسات تزيد من الرقابة على حرية التعبير في شبكات التواصل الاجتماعي ويجرم النقد الموجه ضد السلطة. 

منظمة “Access Now”، التي تعمل في مجال الدفاع عن الحقوق الرقمية للمستخدمين المعرضين للخطر في كافة أنحاء العالم، دعت سنة 2021 إلى منع شركة “Cellebrite” الإسرائيلية لتكنولوجيا المراقبة من الاكتتاب العام والتسجيل رسميا في الولايات المتحدة الأمريكية ، وحثت الجهات التنظيمية المالية في الولايات المتحدة على “توجيه Cellebrite نحو الشفافية وحماية حقوق الإنسان بشكل قوي” كشرط أساسي لإدراجها في سوق الأسهم، حيث “يعد منتجها الرائد هو جهاز استخراج الأدلة الجنائية العالمي (UFED)، الذي يمكّن وكالات إنفاذ القانون من استخراج البيانات من الهواتف المحمولة المقفلة”. وتقول الشركة إنها تبيع نظام UFED فقط لوكالات إنفاذ القانون الشرعية والقوات الدفاعية، وادعت أنها تُستخدم للمساعدة في الجرائم الجسيمة مثل الاعتداءات الجنسية والإرهاب، لكن منظمة “Access Now” أكدت ان الشركة تدرك أيضًا المخاطر، لكنها تبدو مصممة على وضع هذه الأدوات في يد الأنظمة القمعية.

سيليبرايت: الرصاصة الفضية للأنظمة البوليسية 

تحصل فريق منصة فالصو على نسخة من شهادة تسجيل من هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية المتكونة من 649 صفحة (مرفق بهذا التحقيق نسخة كاملة)، وقمنا بدراسة المحتوى التعريفي الذي تقدمت به الشركة لتتمكن من الاكتتاب والتسجيل رسميا في الولايات المتحدة الأمريكية. لنجد ان شركة Cellebrite الاسرائيلية تعترف بوجود انتهاكات في استخدام عملاءها للتكنولوجيات التي تطورها. حيث تذكر في الجزء المخصص للمخاطر المتعلقة بخصوصية البيانات وحقوق الإنسان (الصفحة 44)، انه قد يُنظر إلى بعض حلولها على أنها انتهاك لحقوق الخصوصية والقوانين ذات الصلة، أو قد تحددها المحاكم على أنها كذلك، و”قد يدرك الناس أن البرامج المستخدمة في التحقيقات الرقمية قد يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الخصوصية الفردية.

كما تذكر الشركة الاسرائيلية في وثيقة تأسيسها في الولايات المتحدة الأمريكية ان بعض عملاءها يستخدم برامجها بطريقة غير متوافقة مع حقوق الإنسان. على سبيل المثال، في أوت 2020، اتهمت الشركة أن برنامج UFED كان يُستخدم ضد المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في هونج كونج وأن هذا أدى إلى انتهاكات لحقوق الإنسان. 

من شعارات المقاومة إلى أحضان التكنولوجيا الإسرائيلية

لم يكن ملف CellebriteTunisia الذي تحصلنا عليه كبير الحجم، بل احتوى تماما على أربعه ملفات من نوع pdf، ثلاثة منها شهادات مقدمة من الشركة الاسرائيلية Cellebrite للشخص نفسه “علي الكلاعي Ali Klayi”، وهي شهادة مشغل معتمد من شركة سيليبريت، وشهادتين كمحلل فيزيائي معتمد من شركة سيليبريت

وتذكر الشهادات ان السيد “علي الكلاعي، أو القلاعي”قد أكمل دورة معتمدة على المستوى المتقدم في منهجية الأجهزة والبرامج من سلسلة UFED ليتم الاعتراف به من قبل الشركة الاسرائيلية كمحلل فيزيائي معتمد، كما أكمل 21 ساعة من التطوير المهني المستمر في تحليل بيانات الأجهزة المحمولة وتقنيات البحث المتقدمة باستخدام جهاز UFED. و UFED هو عبارة عن جهاز يمكن استخدامه بشكل مستقل (بدون جهاز كمبيوتر) لإجراء استخراج البيانات. ومع ذلك، لعرض أي تقارير HTML، يجب توصيل جهاز مستهدف (محرك أقراص محمول أو بطاقة SD) بجهاز كمبيوتر. كما أنها تسمح بطباعة البيانات المستخرجة وتحوي عنوان صفحة تعريفي بشركة سيليبرايت، كما في الصورة.

فمن هو علي الكلاعي الذي قام بهذه التدريبات مع الشركة الإسرائيلية Cellebrite؟وما علاقته بوزارة الداخلية التونسية   

قمنا بعمليات بحث دقيقة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لنجد أشخاص قد تتطابق اهتماماتهم مع بروفايل شخص قد يهتم بهذا النوع من التدريبات، لنجد حسابا على لينكيد ان الذي يسهل التواصل وبناء علاقات مهنية، بنفس الاسم، مهندس في الأمن السيبرني والبحث الجنائي الرقمي واستعادة البيانات، ويعمل حسب ماورد في حسابه بقوات الأمن الوطني التونسي. وبمزيد التحري والتدقيق تبين انه السيد علي الكلاعي، رئيس الفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات بالعوينة. 

من حساب السيد علي الكلاعي، رئيس الفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات بالعوينة

كما تحصل فريقنا على ملفات قضائية تحوي بحوثا فنية لسنة 2022 وأخرى تعود لتاريخ ديسمبر 2020. وهي وثائق رسمية لأبحاث عدلية تونسية أجريت في قضايا مختلفة.

من شعارات المقاومة إلى أحضان التكنولوجيا الإسرائيلية 

تحولت الشعارات الداعية للتضامن مع الشعب الفلسطيني والوعود بتجريم التطبيع إلى واقع مرير، حيث تبيّن ان الأمن القومي اصبح ذريعة رئيس الجمهورية للتراجع عن وعود انتخابية وآمال ثورية لتجريم التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، وباتت التكنولوجيا المتقدمة أداة للسيطرة والاضطهاد على نطاق واسع، التي اختُبِرت على 5.5 مليون فلسطيني محتلّ خاضع للحجز التكنولوجيّ العالي والمراقبة، و تحويلها إلى منتجات تُباع للديكتاتوريات والأنظمة القمعية للتجسس ومراقبة مواطنيها وكل من تسوّل له نفسه نقد النظام. فريقنا قام بالبحث في العديد من الملفات القضائية التي سربها أنصار النظام على مواقع التواصل الاجتماعي كما اطلعنا في إطار عملنا على تقرير قضية التآمر: حين تتآمر الدولة على الحقيقة، وتبين ان اجهزة الدولة بالفعل استخدمت هذا البرنامج الاسرائيلي في العديد من القضايا ذات الطابع السياسي وقضايا ضد صحفيين ونشطاء، على غرار الناشطة السياسية شيماء عيسى و قضية المحامية سنية الدهماني واخرون..

سنقدم لكم في تقريرنا القادم تفاصيل نقاط ضعف هذا البرنامج في النسخة التي تستخدمها وزارة الداخلية التونسية ومدى نجاعتها. كما سنقدم لكم تفاصيل حول استخدامات البرنامج الاسرائيلي في تونس. 

لا تعليق

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *